Skip to main content

الإنسان بين المظهر والجوهر - إريك فروم - الجزء الثاني: تحريف الواقع وعبادة الأصنام




يتجه عالم النفس الألماني والفيلسوف إريك فروم إلى نظرة مثالية طوباوية للنظام الأمثل للإنسان، وهو الوضع الذي يتصف بالمشاركة وتحقيق السعادة للجميع فلابد من بدء خطوة لبناء مجتمع جديد: مدينة فاضلة، والأمر لا يتطلب في رأيه إلا اتحاد الإرادات.
ويرى نقاده بأنه تصوره طوباوي لاستحالة الوصول إلى الانسجام الكامل الذي تتلاشى فيه الصراعات وأسبابها.
ومنذ زمن بعيد رأى فروم أن السبل تضيق بالإنسانية، وأن أشكال المجتمعات القائمة تدفع بالإنسان إلى الاختلال والاضطراب، ففي ظل الرأسمالية التي انتقدها فروم بشكل متكرر، أصبح المجتمع يسير باتجاه الجشع والأنانية الطاغية في نفسيات العديد من أفراد العالم، والسعي نحو تحقيق اللذات والرغبات الجشعة، التي مهدت للأقلية السبيل للتحقيق السيطرة ليس على الطبيعة فقط من خلال التطور الصناعي والعلمي، بل على الإنسان ووضعه.
يجعل هذا المجتمع الصناعي الإنسان يعمل أكثر ويستهلك أكثر فيصير في دوامة من الإنتاج المكثف والاستهلاك المفرط، بشكل لاعقلاني يدمر إنسانية الإنسان، فهو مهدد بفقدان إنسانيته، فالعمال يتم اعتبارهم ككائنات عاملة، لا ككائنات بشرية، يتم استغلالهم للإنتاج والاستهلاك، الذي يأخذ أرباحه أقلية مشبعون بروح الأنانية والجشع. فهنا لا تحقق هذا النظام سوى مصالح وسعادة أقلية دون الاهتمام بقيمة الشعب.
إن المجتمع الصناعي يحتقر الطبيعة، ويحتقر كل ما ليس من صنع الآلة، ويحتقر الشعوب التي لا تصنع الآلات، فالناس ينجذبون لكل ما هو ميكانيكي آلي، لما لا حياة فيه.. وينجذبون يوما بعد يوم، للتدمير.
في الواقع، إن المجتمع الصناعي لا يتميز فحسب بالتدمير وانهيار قيم الإنسان، وإنما يتميز أيضا بافتقاد الحرية، فقد ولجنا في عصور شلت حرية الفكر بفعل إرادي، حيث توقف الكثيرون عن التفكير الفردي الحر، وعاشوا على التوجيه والإرشاد من قبل الجماعة التي ينتمون إليها، يتولون التفكير عنهم. وكذلك، لا يمكننا الحديث عن سلب حرية التفكير دون الحديث عن سيطرة العقول من طرف جهات مختلفة ذات أهداف سياسية بالخصوص، كالإعلام: السلطة الرابعة التي تحكم الرأي والتوجه العام...  فلقد فسد نظام حياتنا إلى أن صار إلى تنظيم اللاتفكير.
غدا الإنسان اليوم ذا شخصية تسويقية مستلبة مغتربة، يهدف إلى النجاح من خلال تسويق ذاته كسلعة، سجين الآلات والأشياء، أسير الأطماع والجشع، عبد للأصنام والأوهام، يعمل كآلة عند نخبة البيروقراطيين، الذين يعتبرونه شيئا للإنتاج وكائنا للاستغلال اللاإنساني، فهو عبد للنظام الراديكالي البيروقراطي، فالأسلوب البيروقراطي يمكننا تعريفه بأنه: يدير شؤون البشر وكأنهم مجرد أشياء، ينظر إلى الجانب الكمي في الأشياء أكثر من الاهتمام بنوعيتها، فالبيروقراطي لا يلقي بالا سوى بالإحصاءات الكاذبة، متجاهلا الكائنات الإنسانية الحية التي تقف أمام مكتبه والتي تعكس حقيقة الوضع. والأسلوب البيروقراطي يشمل جوانب عديدة من مجالات الحياة، فالبيروقراطي في مستشفى إذا رفض استقبال مريض حالته خطيرة لأن اللوائح تنص على أنه يجب أن يحول إلى طبيب آخر، وكذلك البيروقراطي المختص الاجتماعي الذي يترك مواطنا يموت جوعا لأن يرفض التفريط في تنفيذ اللوائح حرفيا... وهناك نماذج أخرى عديدة للإنسان البيروقراطي الذي تم تحويله إلى رقم مبرمج يعمل خارج نطاق إنسانيته، ينفذ الأوامر كآلة مستعبدة، لديه ولاء كبير للنظام التدميري.
فهم يعتنقون ديانة صناعية وثنية تدميرية للإنسانية... وحينما نقول ديانة هنا فإننا لا نعني هنا بالدين بالضرورة النظام المتضمن لمفهوم الرب أو لمعبودات بعينها.. بل إن ما نعنيه هو نظام للفكر والعمل تشترك في اعتناقه جماعة من الناس، يعطي لكل فرد في الجماعة إطارا للتوجه وموضوعا يكرس من أجله حياته. وبهذا المفهوم الواسع لكلمة الدين، لم توجد حضارة في الماضي ولا في الحاضر وعلى الأرجح لن توجد في المستقبل حضارة بلا دين. وهذا التعريف للدين لا يصف لنا محتواه فقد يعبد الناس أشياء جامدة أو إلها غير منظور أو بشرا قديسا أو أوطانهم أو الطبقة أو الحزب أو يعبدون المال أو النجاح...
وهذا الدين يمكن أن يؤدي إلى تطور الإنسان وارتقائه وتنمية طاقاته وقدراته، أو إلى عرقلة تطوره وإصابته بالشلل والتدمير. فالدين وظيفة هامة للشخصية.
وحين يختلف ما يسميه الإنسان دينه عن توجهاته وأفكاره ونواياه الحقيقة فإن هذا التوجه الديني ليس إلا إيديولوجية بحد ذاتها. تماما كما يحدث في العالم اليوم، فرغم اعتناق الناس لديانات ما وإيمانهم بها، إلا أن أفعالهم تعكس خلاف ذلك فهي تدميرية سيبرناطيقية- تعرف السبرناطيقية في الأربعينيات بعلم التحكم والاتصال عند الحيوان وفي الآلة- وثنية في جوهرها، أوثانهم المصالح والشهوات والأطماع المادية. وأكثر ما يدعمها هي الإيحاءات من الإعلانات التجارية والسياسية التي تجعلهم سائرين نياما، عقولهم متحكم فيها من قبل النظام. وهذا ما نعنيه بتحريف الواقع وعبادة الأصنام.



وذلك ما عبر عنه مارك توين بقوله "البعض يعبدون المرتبة، والبعض يعبدون الأبطال، آخرون يعبدون القوة، وآخرون يعبدون الله... لكن جميعهم يعبدون المال"

Comments

Popular posts from this blog

الإنسان بين المظهر والجوهر - إريك فروم - الجزء الأول: التملك والكينونة

إريك فروم Erich Fromm (1900-1980) محلل نفسي وفيلسوف وأستاذ جامعي إنساني أمريكي، ألماني الأصل، تأثر فكره بالمحلل النفسي سيغموند فرويد، وكارل ماركس وماكس هوركهايم. وطبق النظريات الفرويدية على الواقع المجتمعي. له مؤلفات عدة من بينها الهروب من الحرية، التحليل النفسي والدين، أزمة التحليل النفسي. يبين إريك فروم في هذا الكتاب أن العالم في أزمته الحاضرة يتجاذبه أسلوبان في الوجود يتصارعان للفوز بالنفس البشرية. فالأسلوب الأول وهو المهيمن في المجتمع الصناعي الحديث، رأسماليا كان أم شيوعيا، هو أسلوب التملك الذي ينصب على التملك المادي والقوة، وهو مبني على الجشع والحسد والعدوان والاقتناء والاستحواذ والاكتناز والجشع. أما الأسلوب الثاني، وهو الأسلوب البديل، فإنه يتجه نحو الكينونة ، ويتجلى في الشعور بمتعة التجربة المشتركة والقيام بالأعمال المنتجة حقا، وتتأصل فيه القيم الأخلاقية السامية على القيم المادية لترسيخ قواعد الوجود الإنساني الخيّر، الذي يعطي البشر فرصة لإخراج أجمل ما عندهم من مواهب وملكات وأخلاق. يفسر إريك فروم فكرته حول التملك والكينونة، والفرق بينهما هو الفرق بين الملك ...

موجز لكتاب معنى الحياة لألفريد أدلر

What life could mean to you – Alfred Adler كتاب معنى الحياة – ألفريد أدلر وُلد أدلر في فيينا عاصمة النمسا عام 1879، وكان الابن الثاني من سبعة أبناء. أصيب في الخامسة من عمره بمرض رئوي خطير، وتوفي أخوه الأصغر بسبب الدفتيريا، فقرر أن يصبح طبيبا ليتمكن من "محاربة الموت". درس الطب في جامعة فيينا ونال الشهادة، وقابل لاحقا "سيغموند فرويد" واهتم بنرياته فانضم لجماعة المناقشة التي أسسها فرويد في عام 1902، إلا أن الخلافات بدأت بينه وبين فرويد ويونج، مما ادى لاستقالته عام 1911 ليكون جماعة علم النفس الفردين حيث يسلك طريقا مختلفة لوصف وعلاج مشاكل البشر النفسية. وهذا موجز لما جاء في كتابه "معنى الحياة". الفصل الأول: معنى الحياة. يركز أدلر مهام الحياة الرئيسية في ثلاثة: الوظيفة أو العمل؛ العلاقات الاجتماعية؛ الزواج أو الحب. ويرى أن الحياة لا يكون لها معنى أو فائدة إلا إذا كانت ذات فائدة للمجتمع، فالمعنى الخاص للحياة ليس سوى انعدام للمعنى، لأنه لا يعني شيئا لباقي أفراد المجتمع؛ فالمعنى الحقيقي للحياة هو التعاون. إن علم النفس الفردي يريد الوصول عن طريق العلم،...

قراءة في كتاب "الإنسان يبحث عن المعنى" ل فيكتور فرانكل viktor frankl

من الملفت للانتباه أن فيينا النمساوية التي أنجبت سيغموند فرويد، مؤسس التحليل النفسي الذي يرى أن دوافع السلوك البشري هي إرادة اللذة الجنسية ، وأنجبت ألفريد أدلر، مؤسس علم النفس الفردي المنظر لدافع المكانة وإرادة القوة؛ هي نفسها التي أنجبت  فيكتور فرانكل، مؤسس العلاج بالمعنى. فماذا يرى فرانكل؟ {صورة لفرانكل} وُلد فرانكل عام 1905 وتوفي عام 1997. درس الطب بمسقط رأسه، فيينا، حيث حصل على الدكتوراه وعمل لاحقا بقسم الانتحار في مستشفى فيينا وترأس لاحقا قسم طب الأعصاب في مستشفى روتشيلد. خلال الحرب العالمية الثانية، أرسل فرانكل وزوجته إلى معسكر تعذيب نازي في ألمانيا. كتب عن هذه الأحداث في كتابه "الإنسان يبحث عن المعنى"، حيث يصف معاناة الجوع والبرد والقسوة وتوقع الإبادة في كل ساعة في المعسكر. معاناته كانت أشقى مما كتب عنه فيودور دوستوفسكي في روايته "ذكريات من منزل الأموات". وفي قلب المعاناة يبحث عن معنى الحياة. تركز المدرسة الثالثة لعلم النفس (طريقة العلاج بالمعنى) على فكرة أن الدافع المحرك للإنسان أكثر من غيره هو إرادة المعنى ، اتباع مسيرة محددة للحياة؛ فالإنسا...