يتجه عالم النفس الألماني والفيلسوف إريك
فروم إلى نظرة مثالية طوباوية للنظام الأمثل للإنسان، وهو الوضع الذي يتصف
بالمشاركة وتحقيق السعادة للجميع فلابد من بدء خطوة لبناء مجتمع جديد: مدينة فاضلة،
والأمر لا يتطلب في رأيه إلا اتحاد الإرادات.
ويرى نقاده بأنه تصوره طوباوي لاستحالة
الوصول إلى الانسجام الكامل الذي تتلاشى فيه الصراعات وأسبابها.
ومنذ زمن بعيد رأى فروم أن السبل تضيق
بالإنسانية، وأن أشكال المجتمعات القائمة تدفع بالإنسان إلى الاختلال والاضطراب، ففي
ظل الرأسمالية التي انتقدها فروم بشكل متكرر، أصبح المجتمع يسير باتجاه الجشع
والأنانية الطاغية في نفسيات العديد من أفراد العالم، والسعي نحو تحقيق اللذات
والرغبات الجشعة، التي مهدت للأقلية السبيل للتحقيق السيطرة ليس على الطبيعة فقط
من خلال التطور الصناعي والعلمي، بل على الإنسان ووضعه.
يجعل هذا المجتمع الصناعي الإنسان يعمل أكثر
ويستهلك أكثر فيصير في دوامة من الإنتاج المكثف والاستهلاك المفرط، بشكل لاعقلاني
يدمر إنسانية الإنسان، فهو مهدد بفقدان إنسانيته، فالعمال يتم اعتبارهم ككائنات
عاملة، لا ككائنات بشرية، يتم استغلالهم للإنتاج والاستهلاك، الذي يأخذ أرباحه
أقلية مشبعون بروح الأنانية والجشع. فهنا لا تحقق هذا النظام سوى مصالح وسعادة
أقلية دون الاهتمام بقيمة الشعب.
إن المجتمع الصناعي يحتقر الطبيعة، ويحتقر
كل ما ليس من صنع الآلة، ويحتقر الشعوب التي لا تصنع الآلات، فالناس ينجذبون لكل
ما هو ميكانيكي آلي، لما لا حياة فيه.. وينجذبون يوما بعد يوم، للتدمير.
في الواقع، إن المجتمع الصناعي لا يتميز
فحسب بالتدمير وانهيار قيم الإنسان، وإنما يتميز أيضا بافتقاد الحرية، فقد ولجنا
في عصور شلت حرية الفكر بفعل إرادي، حيث توقف الكثيرون عن التفكير الفردي الحر،
وعاشوا على التوجيه والإرشاد من قبل الجماعة التي ينتمون إليها، يتولون التفكير
عنهم. وكذلك، لا يمكننا الحديث عن سلب حرية التفكير دون الحديث عن سيطرة العقول من
طرف جهات مختلفة ذات أهداف سياسية بالخصوص، كالإعلام: السلطة الرابعة التي تحكم
الرأي والتوجه العام... فلقد فسد نظام
حياتنا إلى أن صار إلى تنظيم اللاتفكير.
غدا الإنسان اليوم ذا شخصية تسويقية مستلبة
مغتربة، يهدف إلى النجاح من خلال تسويق ذاته كسلعة، سجين الآلات والأشياء، أسير
الأطماع والجشع، عبد للأصنام والأوهام، يعمل كآلة عند نخبة البيروقراطيين، الذين يعتبرونه
شيئا للإنتاج وكائنا للاستغلال اللاإنساني، فهو عبد للنظام الراديكالي البيروقراطي،
فالأسلوب البيروقراطي يمكننا تعريفه بأنه: يدير شؤون البشر وكأنهم مجرد أشياء،
ينظر إلى الجانب الكمي في الأشياء أكثر من الاهتمام بنوعيتها، فالبيروقراطي لا
يلقي بالا سوى بالإحصاءات الكاذبة، متجاهلا الكائنات الإنسانية الحية التي تقف
أمام مكتبه والتي تعكس حقيقة الوضع. والأسلوب البيروقراطي يشمل جوانب عديدة من
مجالات الحياة، فالبيروقراطي في مستشفى إذا رفض استقبال مريض حالته خطيرة لأن
اللوائح تنص على أنه يجب أن يحول إلى طبيب آخر، وكذلك البيروقراطي المختص
الاجتماعي الذي يترك مواطنا يموت جوعا لأن يرفض التفريط في تنفيذ اللوائح حرفيا...
وهناك نماذج أخرى عديدة للإنسان البيروقراطي الذي تم تحويله إلى رقم مبرمج يعمل
خارج نطاق إنسانيته، ينفذ الأوامر كآلة مستعبدة، لديه ولاء كبير للنظام التدميري.
فهم يعتنقون ديانة صناعية وثنية تدميرية
للإنسانية... وحينما نقول ديانة هنا فإننا لا نعني هنا بالدين بالضرورة النظام
المتضمن لمفهوم الرب أو لمعبودات بعينها.. بل إن ما نعنيه هو نظام للفكر والعمل
تشترك في اعتناقه جماعة من الناس، يعطي لكل فرد في الجماعة إطارا للتوجه وموضوعا
يكرس من أجله حياته. وبهذا المفهوم الواسع لكلمة الدين، لم توجد حضارة في الماضي
ولا في الحاضر وعلى الأرجح لن توجد في المستقبل حضارة بلا دين. وهذا التعريف للدين
لا يصف لنا محتواه فقد يعبد الناس أشياء جامدة أو إلها غير منظور أو بشرا قديسا أو
أوطانهم أو الطبقة أو الحزب أو يعبدون المال أو النجاح...
وهذا الدين يمكن أن يؤدي إلى تطور الإنسان
وارتقائه وتنمية طاقاته وقدراته، أو إلى عرقلة تطوره وإصابته بالشلل والتدمير.
فالدين وظيفة هامة للشخصية.
وحين يختلف ما يسميه الإنسان دينه عن
توجهاته وأفكاره ونواياه الحقيقة فإن هذا التوجه الديني ليس إلا إيديولوجية بحد
ذاتها. تماما كما يحدث في العالم اليوم، فرغم اعتناق الناس لديانات ما وإيمانهم
بها، إلا أن أفعالهم تعكس خلاف ذلك فهي تدميرية سيبرناطيقية- تعرف السبرناطيقية في
الأربعينيات بعلم التحكم والاتصال عند الحيوان وفي الآلة- وثنية في جوهرها،
أوثانهم المصالح والشهوات والأطماع المادية. وأكثر ما يدعمها هي الإيحاءات من
الإعلانات التجارية والسياسية التي تجعلهم سائرين نياما، عقولهم متحكم فيها من قبل
النظام. وهذا ما نعنيه بتحريف الواقع وعبادة الأصنام.
وذلك ما عبر عنه مارك توين بقوله "البعض يعبدون المرتبة، والبعض يعبدون الأبطال، آخرون يعبدون القوة، وآخرون يعبدون الله... لكن جميعهم يعبدون المال"
Comments
Post a Comment