Skip to main content

الإنسان بين المظهر والجوهر - إريك فروم - الجزء الثالث: المجتمع الجديد




لا يمكن للشخصية الاجتماعية- التي نعرّفها بالدائرة النفسية للفرد- والبنية الاجتماعية الاقتصادية للمجتمع أن تكونا منفصلتين فأي تغيير يطرأ على إحديهما يعني تغييرا فيهما معا، لذلك لا يمكن البحث في سبل خلق تغيير في البنيتين السياسية والاقتصادية لترقب تطوير طبائع البشر وقيمهم وشخصيتهم، أو تغيير عقلية الإنسانية. ولا العكس ممكن. بل تغيير كليهما. فلبناء مجتمع جديد يستلزم منا الأمر التخلص من نمط التملك والانتقال لنمط الكينونة، وذلك بالانتقال من الاهتمام بالأشياء المادية والربح الاقتصادي إلى الاهتمام بالإنسان وما هو جوهري، وكذا التكافل مع الطبيعة لا السعي للسيطرة عليها وتدميرها، علينا خلق ظروف طيبة للعيش للناس لكن دون إشباع الحد الأقصى من دوافعهم الشهوانية المدمرة...
لا أحد يستطيع التنبؤ بإمكانية تحقيق هذا أم لا، لكن هذا التغيير يتوقف على عامل واحد: كم من العلماء والمفكرين يمكن أن تشغلهم حقيقة أن هدفنا هذه المرة ليس السيطرة على الطبيعة، وإنما السيطرة على التكنولوجيا، وعلى القوى والمؤسسات الاجتماعية اللاعقلانية التي تهدد بقاء الجنس البشري -أو بقاء إنسانيته-.



إن المخططات ذات الأهداف العامة من قبيل "جعل وسائل الإنتاج ملكا للجميع" قد تحولت إلى لغة مموهة تخفي حقيقة عدم وجود اشتراكية على الإطلاق. فنقطة ضعف الساعين للاشتراكية هو أنهم لم يضعوا مخططا واضحا مدروسا نظريا وتجريبيا للأشكال الاجتماعية الجديدة، لهذا فنحن بحاجة لعلم إنساني يدرس الوضع البشري بدقة، تمما كما وُضع العلم الطبيعي والفيزيائي لدراسة الطبيعة والكون، وبحاجة لبذل الجهد.
وإذا كان من الواجب إخضاع النشاط الاقتصادي والاجتماعي للتطور الإنساني، فإن الإنسان يجب ألا يعيش في حالة من الفقر تهدر آدميته ولا في حالة كائن مستهلك لأجل الاستهلاك، فعلينا التفكير في الاستهلاك الرشيد لبناء اقتصادي صحي لأناس أصحاء. و قد أوضح إريك فروم في كتابه "المجتمع السليم" عدة اقتراحات ممكنة لخلق هذا التطور. ويرى أن مشكل الديمقراطية الحالي هو أن الفرد الذي يصوت، أولا لا يكون بدراية تامة بالواقع والوضع القائم فلا يعرف اتخاذ الاختيارات المناسبة، ثانيا هو يعلم أن رأيه لن يؤخذ بعين الاعتبار ومن تم فليست له أية فاعلية، ثالثا مجموع هذه الآراء يشكل رأي الناس في لحظة واحدة بعينها، ولا يتنبأ بالآراء والتوجهات التي يمكن أن تولد في اختلاف الظروف. وبالمثل فحين يُدعى الناخبون للإدلاء بأصواتهم في الانتخابات السياسية، فحالما يصوتون على مرشح معين، لا يكون لهم أي تأثير أو نفوذ على سير الأحداث، فيصبح التصويت كاختيار نوع السجائر التي يدخّنونها ليس إلا.
وهنا بعض النقاط عن اقتراحات إريك فروم للمجتمع الجديد:
1- إغلاق الهوة بين الدول الفقيرة والغنية: فالدول الغنية تستغل الدول الفقيرة بشكل مفرط، تنهبها بجشع، وهذا الاستغلال يمنع أية إمكانية لتخطو الدول الفقيرة خطوة نحو الأمام.
2- تحرير النساء من هيمنة الرجال: فحيثما توجد هيمنة ذكورية، نجد طبقية تجعل من فئة تفقد إنسانيتها وتُستعبد من طرف فئة أقوى، فلا يتحقق التكافل والعدل.
3- إصلاح الإعلام: فما يسمونه الصحف الكبرى، تجيد الحصول على المعلومات ونشرها، بيد أنها تجيد أيضا تشويهها بدرجة أكبر، بعدم مراعاة الحياد تجاه الأخبار، والأساليب الإيحائية التي تؤثر في المتلقي بشكل لاواعي.
4- فصل البحث العلمي عن تطبيقاته في الصناعة والشؤون الحربية: فلما فقد الهدف من العلم هدفه السامي، وهو البحث عن المعرفة وفهم الطبيعة والكون، صار العلم سلاحا بحد ذاته للسيطرة على الطبيعة وعلى كل العالم. فلا يمكن لدولة تستنزف ميزانيتها على صنع الأسلحة ووسائل الدمار أن توفر ميزانية للخدمات الاجتماعية للشعب.

كخلاصة: لا يمكننا إقامة المجتمع الجديد إلا إذا نبذنا حوافز الربح والسلطة القديمة السائدة، وسودنا مكانها القيم الجديدة: الكينونة والمشاركة والفهم... إلا إذا انتهى نمط الشخصية التسويقية لتحل محلها الشخصية المحبة الخصبة... إلا إذا انتهت عبادة السيبرناطيقا لتحل محلها الروح الإنسانية الأصيلة.


Comments

Popular posts from this blog

الإنسان بين المظهر والجوهر - إريك فروم - الجزء الأول: التملك والكينونة

إريك فروم Erich Fromm (1900-1980) محلل نفسي وفيلسوف وأستاذ جامعي إنساني أمريكي، ألماني الأصل، تأثر فكره بالمحلل النفسي سيغموند فرويد، وكارل ماركس وماكس هوركهايم. وطبق النظريات الفرويدية على الواقع المجتمعي. له مؤلفات عدة من بينها الهروب من الحرية، التحليل النفسي والدين، أزمة التحليل النفسي. يبين إريك فروم في هذا الكتاب أن العالم في أزمته الحاضرة يتجاذبه أسلوبان في الوجود يتصارعان للفوز بالنفس البشرية. فالأسلوب الأول وهو المهيمن في المجتمع الصناعي الحديث، رأسماليا كان أم شيوعيا، هو أسلوب التملك الذي ينصب على التملك المادي والقوة، وهو مبني على الجشع والحسد والعدوان والاقتناء والاستحواذ والاكتناز والجشع. أما الأسلوب الثاني، وهو الأسلوب البديل، فإنه يتجه نحو الكينونة ، ويتجلى في الشعور بمتعة التجربة المشتركة والقيام بالأعمال المنتجة حقا، وتتأصل فيه القيم الأخلاقية السامية على القيم المادية لترسيخ قواعد الوجود الإنساني الخيّر، الذي يعطي البشر فرصة لإخراج أجمل ما عندهم من مواهب وملكات وأخلاق. يفسر إريك فروم فكرته حول التملك والكينونة، والفرق بينهما هو الفرق بين الملك ...

موجز لكتاب معنى الحياة لألفريد أدلر

What life could mean to you – Alfred Adler كتاب معنى الحياة – ألفريد أدلر وُلد أدلر في فيينا عاصمة النمسا عام 1879، وكان الابن الثاني من سبعة أبناء. أصيب في الخامسة من عمره بمرض رئوي خطير، وتوفي أخوه الأصغر بسبب الدفتيريا، فقرر أن يصبح طبيبا ليتمكن من "محاربة الموت". درس الطب في جامعة فيينا ونال الشهادة، وقابل لاحقا "سيغموند فرويد" واهتم بنرياته فانضم لجماعة المناقشة التي أسسها فرويد في عام 1902، إلا أن الخلافات بدأت بينه وبين فرويد ويونج، مما ادى لاستقالته عام 1911 ليكون جماعة علم النفس الفردين حيث يسلك طريقا مختلفة لوصف وعلاج مشاكل البشر النفسية. وهذا موجز لما جاء في كتابه "معنى الحياة". الفصل الأول: معنى الحياة. يركز أدلر مهام الحياة الرئيسية في ثلاثة: الوظيفة أو العمل؛ العلاقات الاجتماعية؛ الزواج أو الحب. ويرى أن الحياة لا يكون لها معنى أو فائدة إلا إذا كانت ذات فائدة للمجتمع، فالمعنى الخاص للحياة ليس سوى انعدام للمعنى، لأنه لا يعني شيئا لباقي أفراد المجتمع؛ فالمعنى الحقيقي للحياة هو التعاون. إن علم النفس الفردي يريد الوصول عن طريق العلم،...

قراءة في كتاب "الإنسان يبحث عن المعنى" ل فيكتور فرانكل viktor frankl

من الملفت للانتباه أن فيينا النمساوية التي أنجبت سيغموند فرويد، مؤسس التحليل النفسي الذي يرى أن دوافع السلوك البشري هي إرادة اللذة الجنسية ، وأنجبت ألفريد أدلر، مؤسس علم النفس الفردي المنظر لدافع المكانة وإرادة القوة؛ هي نفسها التي أنجبت  فيكتور فرانكل، مؤسس العلاج بالمعنى. فماذا يرى فرانكل؟ {صورة لفرانكل} وُلد فرانكل عام 1905 وتوفي عام 1997. درس الطب بمسقط رأسه، فيينا، حيث حصل على الدكتوراه وعمل لاحقا بقسم الانتحار في مستشفى فيينا وترأس لاحقا قسم طب الأعصاب في مستشفى روتشيلد. خلال الحرب العالمية الثانية، أرسل فرانكل وزوجته إلى معسكر تعذيب نازي في ألمانيا. كتب عن هذه الأحداث في كتابه "الإنسان يبحث عن المعنى"، حيث يصف معاناة الجوع والبرد والقسوة وتوقع الإبادة في كل ساعة في المعسكر. معاناته كانت أشقى مما كتب عنه فيودور دوستوفسكي في روايته "ذكريات من منزل الأموات". وفي قلب المعاناة يبحث عن معنى الحياة. تركز المدرسة الثالثة لعلم النفس (طريقة العلاج بالمعنى) على فكرة أن الدافع المحرك للإنسان أكثر من غيره هو إرادة المعنى ، اتباع مسيرة محددة للحياة؛ فالإنسا...