لا يمكن للشخصية الاجتماعية- التي نعرّفها بالدائرة
النفسية للفرد- والبنية الاجتماعية الاقتصادية للمجتمع أن تكونا منفصلتين فأي
تغيير يطرأ على إحديهما يعني تغييرا فيهما معا، لذلك لا يمكن البحث في سبل خلق
تغيير في البنيتين السياسية والاقتصادية لترقب تطوير طبائع البشر وقيمهم وشخصيتهم،
أو تغيير عقلية الإنسانية. ولا العكس ممكن. بل تغيير كليهما. فلبناء مجتمع جديد
يستلزم منا الأمر التخلص من نمط التملك والانتقال لنمط الكينونة، وذلك بالانتقال
من الاهتمام بالأشياء المادية والربح الاقتصادي إلى الاهتمام بالإنسان وما هو
جوهري، وكذا التكافل مع الطبيعة لا السعي للسيطرة عليها وتدميرها، علينا خلق ظروف
طيبة للعيش للناس لكن دون إشباع الحد الأقصى من دوافعهم الشهوانية المدمرة...
لا أحد يستطيع التنبؤ بإمكانية تحقيق هذا أم
لا، لكن هذا التغيير يتوقف على عامل واحد: كم من العلماء والمفكرين يمكن أن تشغلهم
حقيقة أن هدفنا هذه المرة ليس السيطرة على الطبيعة، وإنما السيطرة على
التكنولوجيا، وعلى القوى والمؤسسات الاجتماعية اللاعقلانية التي تهدد بقاء الجنس
البشري -أو بقاء إنسانيته-.
إن المخططات ذات الأهداف العامة من قبيل
"جعل وسائل الإنتاج ملكا للجميع" قد تحولت إلى لغة مموهة تخفي حقيقة عدم
وجود اشتراكية على الإطلاق. فنقطة ضعف الساعين للاشتراكية هو أنهم لم يضعوا مخططا
واضحا مدروسا نظريا وتجريبيا للأشكال الاجتماعية الجديدة، لهذا فنحن بحاجة لعلم
إنساني يدرس الوضع البشري بدقة، تمما كما وُضع العلم الطبيعي والفيزيائي لدراسة
الطبيعة والكون، وبحاجة لبذل الجهد.
وإذا كان من الواجب إخضاع النشاط الاقتصادي
والاجتماعي للتطور الإنساني، فإن الإنسان يجب ألا يعيش في حالة من الفقر تهدر
آدميته ولا في حالة كائن مستهلك لأجل الاستهلاك، فعلينا التفكير في الاستهلاك
الرشيد لبناء اقتصادي صحي لأناس أصحاء. و قد أوضح إريك فروم في كتابه
"المجتمع السليم" عدة اقتراحات ممكنة لخلق هذا التطور. ويرى أن مشكل
الديمقراطية الحالي هو أن الفرد الذي يصوت، أولا لا يكون بدراية تامة بالواقع
والوضع القائم فلا يعرف اتخاذ الاختيارات المناسبة، ثانيا هو يعلم أن رأيه لن يؤخذ
بعين الاعتبار ومن تم فليست له أية فاعلية، ثالثا مجموع هذه الآراء يشكل رأي الناس
في لحظة واحدة بعينها، ولا يتنبأ بالآراء والتوجهات التي يمكن أن تولد في اختلاف
الظروف. وبالمثل فحين يُدعى الناخبون للإدلاء بأصواتهم في الانتخابات السياسية،
فحالما يصوتون على مرشح معين، لا يكون لهم أي تأثير أو نفوذ على سير الأحداث،
فيصبح التصويت كاختيار نوع السجائر التي يدخّنونها ليس إلا.
وهنا بعض النقاط عن اقتراحات إريك فروم
للمجتمع الجديد:
1- إغلاق الهوة بين الدول الفقيرة والغنية:
فالدول الغنية تستغل الدول الفقيرة بشكل مفرط، تنهبها بجشع، وهذا الاستغلال يمنع
أية إمكانية لتخطو الدول الفقيرة خطوة نحو الأمام.
2- تحرير النساء من هيمنة الرجال: فحيثما
توجد هيمنة ذكورية، نجد طبقية تجعل من فئة تفقد إنسانيتها وتُستعبد من طرف فئة
أقوى، فلا يتحقق التكافل والعدل.
3- إصلاح الإعلام: فما يسمونه الصحف الكبرى،
تجيد الحصول على المعلومات ونشرها، بيد أنها تجيد أيضا تشويهها بدرجة أكبر، بعدم
مراعاة الحياد تجاه الأخبار، والأساليب الإيحائية التي تؤثر في المتلقي بشكل
لاواعي.
4- فصل البحث العلمي عن تطبيقاته في الصناعة
والشؤون الحربية: فلما فقد الهدف من العلم هدفه السامي، وهو البحث عن المعرفة وفهم
الطبيعة والكون، صار العلم سلاحا بحد ذاته للسيطرة على الطبيعة وعلى كل العالم.
فلا يمكن لدولة تستنزف ميزانيتها على صنع الأسلحة ووسائل الدمار أن توفر ميزانية
للخدمات الاجتماعية للشعب.
كخلاصة: لا يمكننا إقامة المجتمع الجديد إلا
إذا نبذنا حوافز الربح والسلطة القديمة السائدة، وسودنا مكانها القيم الجديدة:
الكينونة والمشاركة والفهم... إلا إذا انتهى نمط الشخصية التسويقية لتحل محلها
الشخصية المحبة الخصبة... إلا إذا انتهت عبادة السيبرناطيقا لتحل محلها الروح
الإنسانية الأصيلة.
Comments
Post a Comment